-->

الله الجزء الثانى

الله الجزء الثانى

    الله الجزء الاول


    وهكذا أقمت لنفسي نظرية تكتفي بالموجود..وترى أن الله هو الوجود
    ..دون حاجة إلى افتراض الغيب والمغيبات..ودون حاجة إلى التماس
    اللامنظور .
    وبذلك وقعت في أسر فكرة وحدة الوجود الهندية وفلسفة سبينوزا ..وفكرة
    برجسون عن الطاقة
    الباطنة الخلاقة وكلها فلسفات تبدأ من الأرض..من الحواس الخمس .. ولا
    تعترف بالمغيبات .
    ووحدة الوجود الهندية تمضي إلى أكثر من ذلك فتلغى الثنائية بين
    المخلوق والخالق ..فكل المخلوقات
    في نظرها هي عيني الخالق.
    وفي سفر اليوبانيشاد صلاة هندية قديمة تشرح هذا المعنى في أبيات
    رقيقة من الشعر .
    إن الإله براهم ا الذي يسكن قلب العالم يتحدث في همس قائ لا:
    إذا ظن القاتل أنه قاتل
    والمقتول أنه قتيل
    فليسا يدريان ما خفي من أساليبي
    حيث أكون الصدر لمن يموت
    والسلاح لمن يقتل
    والجناح لمن يطير
    وحيث أكون لمن يشك في وجودي.
    كل شيء حتى الشك نفسه .
    وحيث أكون أنا الواحد
    وأنا الأشياء
    إنه إله يشبه النور الأبيض ..واحد.. وبسيط..ولكنه يحتوى في داخله على
    ألوان الطيف السبعة.
    وعشت سنوات في هذا الضباب الهندي وهذه الماريجوانا الصوفية
    ومارست اليوجا وقرأتها في أصولها
    وتلقيت تعاليمها على أيدي أساتذة هنود .وسيطرت على فكرة التناسخ
    مدة طويلة وظهرت روايات
    لي مثل العنكبوت والخروج من التابوت.
    ثم بدأت أفيق على حالة من عدم الرضا وعدم الاقتناع.
    واعترفت بيني وبين نفسي أن هذه الفكرة عن الله فيها الكثير من الخلط
    .ومرة أخرى كان العلم هو دليلي ومنقذي ومرشدي .
    عكوفي على العلم وعلى الشريحة الحية تحت الميكرسكوب قال لي
    شيئ ا آخر.
    وحدة الوجود الهندية كانت عبارة شعرية صوفية..ولكنها غير صادقة.. و
    الحقيقة المؤكدة التي يقولها العلم أن هناك وحدة في الخامة لا أكثر ..
    وحدة في النسيج و السنن الأولية و القوانين .. وحدة في المادة الأولية
    التي بني منها كل شيء .. فكل الحياة من نبات و حيوان و إنسان بنيت
    من تواليف الكربون مع الآيدروجين و الأكسجين .. و لهذا تتحول كلها إلى
    فحم بالاحتراق .. و كل صنوف الحياة تقوم على الخلية الواحدة و
    مضاعفاتها .
    و مرة أخرى نتعلم من الفلك و الكيمياء و العلوم النووية أن الكربون ذاته و
    كذلك جميع العناصر المختلفة جاءت من طبخ عنصر واحد في باطن الأفران
    النجمية الهائلة هو الآيدروجين .
    الآيدروجين يتحول في باطن الأفران النجمية إلى هليوم و كربون و سليكون
    و كوبالت و نيكل و حديد إلى آخر قائمة العناصر و ذلك بتفكيكه و إعادة
    تركيبه في درجات حرارة و و ضغوط هائلة .
    و هذا يرد جميع صنوف الموجودات إلى خامة واحدة .. إلى فتلة واحدة
    حريرية غزل منها الكون في تفصيلات و تصميمات و طرز مختلفة .
    و الخلاف بين صنف و صنف و بين مخلوق و مخلوق هو خلاف في العلاقات
    الكيفية و الكمية .. في المعادلة و الشفرة التكوينية .. لكن الخامة واحدة ..
    و هذا سر الشعور بالنسب و القرابة و المصاهرة و صلة الرحم بين الإنسان

    و الحيوان و بين الوحش و مروضه و بين الأنف التي تشم و الوهرة العاطرة
    و بين العين و منظر الغروب الجميل .
    هذا هو سر الهارموني و الانسجام .
    إن كل الوجود أفراد أسرة واحدة من أب واحد .
    و هو أمر لا يستتبع أبد ا أن نقول إن الله هو الوجود , و أن الخالق هو
    المخلوق فهذا خلط صوف ي غير وارد .
    و الأمر شبيه بحالة الناقد الذواقة الذي دخل معرض ا للرسم فاكتشف وحدة
    فنية بين جميع اللوحات .. و اكتشف أنها جميع ا مرسومة على الخامة
    نفسها .. و بذات المجموعة الواحدة من الألوان , و أكثر من هذا أن أسلوب
    الرسم واحد .
    و النتيجة الطبيعية أن يقفز إلى ذهن الناقد أن خالق جميع هذه اللوحات
    واحد . و أن الرسام هو بيكاسو أو شاجال أو موديلياني .. مث لا ..
    فالوحدة بين الموجودات تعني وحدة خالقها .
    و لكنها لا تعني أبد ا أن هذه الموجدات هي ذاتها الخالق .
    و لا يقول الناقد أبد ا إن هذه الرسوم هي الر سام .
    إن وحدة الوجود الهندية شطحة صوف ية خرافية .. و هي تبسيط وجداني لا
    يصادق عليه العلم و لا يرتاح إليه العقل .
    و إنما تقول النظرة العلمية المتأملة لظواهر الخلق و المخلوقات , إن هناك
    وحدة بينها .. وحدة أسلوب ووحدة قوانين ووحدة خامات تعني جميعها أن
    خالقها واحد لم يشرك معه شريك ا يسمح بأسلوب غير أسلوبه .
    و تقول لنا أيض ا إن هذا الخالق هو عقل ك لي شامل و محيط , يلهم
    مخلوقاته و يهديها في رحلة تطورها و يس لحها بوسائل البقاء , فهو يخلق
    لبذور الأشجار الصحراوية أجنح ة لتستطيع أن تعبر الصحارى الجرداء بحث ا
    عن ماء و عن ظروف إنبات موالية .
    و هو يزود بيضة البعوضة بكيسين للطفو لتطفو على الماء لحظة وضعها و
    لا تغرق . و ما كان من الممكن للبعوضة أن تدرك قوانين أرشميدس للطفو
    فتصنع لبيضها تلك الأكياس .

    و إنما هو العقل الكلي الشامل المحيط الذي خلق .. هو الذي يزود كل
    مخلوق بأسباب حياته .. و هو خالق متعال على مخلوقاته .. يعلم ما لا
    تعلم و يقدر على ما لا تقدر و يرى ما لا ترى .
    فهو واحد أحد قادر عالم محيط سميع بصير خبير .. و هو متعال يعطى
    الصفات و لا تحيط به صفات .
    * * *
    و الصلة دائم ا معقودة بين هذا الخالق و مخلوقاته فهو أقرب إليها من دمها
    الذي يجري فيها .
    و هو المبدع الذي عزف الإبداع هذه المعزوفة الكونية الرائعة .
    و هو العادل الذي احكم قوانينها و أقامها على نواميس دقيقة لا تخطئ .
    و هكذا قدم لي العلم الفكرة الإسلامية الكاملة عن الله .
    * * *
    أما القول بأزلية الوجود لأن العدم معدوم و الوجود موجود , فهو جدل لفظي
    لا يقوم إلا على اللعب بالألفاظ .
    و العدم في واقع الأمر غير معدوم .
    و قيام العدم في التصور و الفكر ينفي كونه معدوم ا .
    و العدم هو على الأكثر نفي لما نعلم و لكنه نفي ا مطلق ا مساوي ا للمحو
    المطلق . و فكرة العدم المطلق فرضية مثل فرضية الصفر الرياضي .. و لا
    يصح الخلط بين الافتراض و الواقع و لا يصح تحميل الواقع فرض ا نظري ا ,
    فنقول اعتساف ا إن العدم معدوم , و نعتبر أن هذا الكلام قضية وجودية نبني
    عليها أحكام ا في الواقع .. هذا تناقض صريح و سفسطة جدلية ..
    و بالمثل القول بأن الوجود موجود .. هنا نفس الخلط .. فالوجود تجريد
    ذهني و الموجود واقع حس ي ..
    و كلمة العدم و كلمة الوجود تجريدات ذهنية كالصفر , و اللانهاية لا يصح أن
    نخلط بينها و بين الواقع الملموس المتع ين , و الكون الكائن المحدد أمام
    الحواس .
    و يقرر هذا القانون أن الحرارة تنتقل من الساخن إلى البارد .. من الحرارة
    الأعلى إلى الحرارة الأدنى حتى يتعادل المستويان فيتوقف التبادل
    الحرار ي .
    و لو كان الكون أزل ي ا بدون ابتداء لكان التبادل الحراري قد توقف في تلك
    الآباد الطويلة المتاحة و بالتالي لتوقفت كل صور الحياة .. و لبردت النجوم و
    صارت بدرجة حرارة الصقيع و الخواء حولها و انتهى ك ل شيء .
    إن هذا القانون هو ذاته دليل على أن الكون كان له بدء .
    و القيامة الصغرى التي نراها حولنا في موت في موت الحضارات و موت
    الأفراد و موت النجوم و موت الحيوان و النبات و تناهي اللحظات و الحقب و
    الدهور هي لمحة أخرى تدلنا على القيامة الكبرى التي لا بد أن ينتهي
    إليها الكون .
    إن العلم الحق لم يكن أبد ا مناقض ا للدين بل إنه دال عليه مؤكد بمعناه .
    و إنما نصف العلم هو الذي يوقع العقل في الشبهة و الشك .. و بخاصة إن
    كان ذلك العقل مزه و ا بنفسه معت د ا بعقلانيته .. و بخاصة إذا دارت المعركة
    في عصر يتصور فيه العقل أنه ك ل شيء .. و إذا حاصرت الإنسان شواهد
    حضارة ماد ية صارخة تزأر فيها الطائرات و سفن الفضاء و الأقمار الصناع ية ..
    هاتف ة ك ل لحظة .
    أنا المادة
    أنا كل شيء



    كتاب رحلتي من الشك إلى الإيمان - مصطفى محمود


    محتوى الكتاب :

    الله الجزء الاول

    الله الجزء الثانى

    الجسد الجزء الاول

    الجسد الجزء الثانى

    الروح الجزء الاول

    الروح الجزء الثانى

    العدل الأزلي

    لماذا العذاب ؟

    ماذا قالت لي الخلوة

    إرسال تعليق